شاعر الحب
عثمان أبو ماهر
في مبسم الفجر مبلول النسيمات سكبت ضوئي وعطري وابتساماتي
نعم هكذا قال الشاعر الأديب المناضل عبد الله عبد الوهاب نعمان الراحل عنا اليوم. هكذا قال في مبسم الفجر، وهكذا سكب ضوءه وعطره وابتساماته ورحل، فبأي شيء نودعه اليوم! وكيف نودع البلبل الصداح؟ بأي القوافي! وعلي أي الأوزان! أفي مدارب السيل الذي لم يرتوي منها قلبه الخفاق الظامئ طوال عمره! أم في مبسم الفجر الجاف النسيمات حزنا عليه! ليست أدري! لقد توقف وحي فؤادي إلى قلمي فلم أجد من حولي غير وقع دموعي الساكبة.
سكبت دمعي وأناتي وآهاتـي لـم أختفيتَ وعاتبتُ السماوات
فغنت الحور ياغادٍ ويا آتــي ورشرشت عطر أدواحٍ وجنـات
فتبسمت، تبسمت وأحسست بعروج روحي يسير من خلالك ليرى أستقبالك ولما رأيت عبر وحي عروجها كيف استقبلك والدك الشهيد على باب جنة الخلد ومن حوله الحور العين تغني وتصفق طافت بي الذكري فإذا بي أسمع قولك يوم أن استقبلت به أعز حبيب:
هنوا لقلبي عند قلبي ضيوف
وصفقوا حتى تدَمُّ الكفـوف
وباركوا حبي وقوموا وقوف
حتى جعلت أردد عبر ذبذبات المخيلة ما كنت أتخيله سمعا على ألسنة الحور:
هنُّـوا لنا الحور وأصطفوا صفوف
وصفقـــوا حتى تدم الكفوف
وباركوا النعمان قومــوا وقوف
نعم هكذا تسمع القلوب المؤمنة عبر وحي السماوات التي ترسل إلى ذبذبات الحس الإنساني بمجريات عالم الغيب. كانت السحاب تسكب أحزانها وكانت مدارب السيل التي لم يرتوي منها ظمأ قلبك ياعبدالله تردش فتملا الحقول وكنت أهمس بصوت متهدج حزين:
أزال مازال طرفي كلها ذرفت عين السحائب مثلا جادت مثلا جادت الحدقُ
لأنني في وميـض البـرق أبصر من بيـارق الناس من هم أبصر الغســقُ
في كل عيــد تشـي برد أنـجمنا أرواحهـم لترى صنــع الذين بقوا
مدارب السيل قولي وامدارب لمـــه
مات البليبل عبيد الله من ألمــــه
أظن عزرائيل لحور العين قد سلمــه
أمانة الله ياحور أغسلنــــه بمـا
ماء الخلود أسكبيه من ثغور اللمــه
وأروين قليبه كما قليبه يشق الظمــأ
مايرتويش من مياه السيل أو ماء السماء
نعم! لأنه عاش المحن واليتم والتشرد وجاع وضرب في سبيل نبض قلبه الوطن الدامي فلم يبارحه في لحظة من لحظات عمرة لم ينسي الشواجب بل جعل يعدها بالعودة رغم البعاد والحرمان فجنح ..
جنحت واجناحي حديد لا ريش راجع لبرد الصبح والشواجب
راجع للشحارير الغريدة وللمواشي السائمات على البئر ولما عاد تغنى بالوديان من أعماقه كما تغني إبن علوان، وغنى لمدارب السيل بظمأ لافح كعبد الهادي السودي، وغنى للحبيب والليالي غامضات النجوم كما غني الصريمي، والسحائب يغمزن للشعير.
وادي الضبـاب ماءك غزير سكاب نصفك سيول والنصف دمع الأحباب
فالتقي هنا مع أحمد بن علوان على معربه من وادي الفرس والوادي حنا فأختلط الدمع الحزين الدائم بماء السيول.
الحزن دائما عند الراحل عبد الله كان أقوي من الحب الخاص لأن الحزن كان يمثل حزن الوطن في أعماق أعماقه، وحتى لو حاول شاعرنا وأديبنا في قصيدة من قصائده أن ينسى الحزن فإنه لا يقدر لأنه دائم الحزن فنجده من طرف خفي يظهر في معاتبة الجبال
طاب البلـس طاب واعذارى طاب هيا صبحـونا بلس
والفرسك اخضر وحالي فراسكك واصبر لمه تسبب ضرس
الفرسك اخضر وحالي لكنه في مذاقه الباطن الحزين الباحث عن العدل والحب جعله حامضا ضرسا، وحتى الجمال في عرف عبد الله وناموسه في حاجة إلى حراسة كالمبادئ:
ما أحلى بنات الجبل حمـا يطوفيـن المدينـة بالثياب الدمس
خدود مثل الورد ضوء الفجر أرواها وأعطاها المشاقـر حرس
كان هكذا وهكذا كان، ونحن ماذا نقول له اليوم! سنقول لك يا عبدالله ما اعتصرته القلوب الحزينة عليك سنقول:
اليوم ما أحلي البنات الحسان حما يزفين الفضول في الرياض النفس
خــدود حـور العين ضـوء الله أرواهـا بن،ور القبـــس
رحم الله الفضول عبد الله لقد كان حينما يبلغ الفرح ذروته في أعماقه وتكبر الفرحة فإنه يترجمها ويدعو الناس والدنيا كلها أن تفرح معه وتردد لأنه لا يعبر عن نفسه وحدها وإنما عن الناس عن الدنيا كلها:
رددي أيتها الدنيا نشيدي ردديه وأعيدي وأعيدي
ولم ينس في غمرة الفرحة من كان السبب بل سرعان ما يطلب من الدنيا كلها أن تذكر معه السبب وان تمنحه حللا من ضوئها من ضوء العيد ال1ي ملأ قلبه فرحا:
واذكري في فرحتي طل شهيد
وامنحيه حللا من ضوء عيدي
الفرحة في عرفه وناموسه لا نفي بالغرض وإنما لا بد للشهيد السبب في العيد الفرحة من أن يحصل على ما يتناسب مع التضحية التي بزغ منها ضوء العيد.
وعبد الله البلبل، عبد الله الحزين، عبد الله الذي وهبه الله القلب الخفاق المليء بالحب الكبير للوطن وبالآم الوطن لايقف عيد هذه الرؤية الشاعرية بل يرى البعد المضئ بنور المؤمنين إطلاله الشهداء في غمرة الفرحة فيقول:
كم شهيدا من ثري قبر يطـلُّ
ليرى ما قد سقا بالدم غرسـه
ويري جيلا رشيدا لا يضـلُّ
للفداء الضخم قد هيأ نفسـه
ويري الهامات منا كيف تعلـو
في ضحى اليوم الذي أطلع شمسه
الفرحة وعلو الهامات في ضحى العيد السبب الذي جاء به الشهيد تتجلي في رؤية متناسقة متكاملة ولا فرحة ولا عيد في الرؤية الشاعرية والإحساس إلا بوجودها لأنها من نسيج الشهيد الباقي بنضاله وتضحيته في أعماق عبد الله. فأي شاعر كنت ياعبدالله الراحل! ولماذا رحلت عنا مبكرا؟ وكيف نودعك! نحن لانريد.
رددي أيتها الدنيــــا حنيني
ردديه ردديه ودعيــــــني
واذكري ألام قلبي واستعيني
بأنني طالما طالت سنيـــــني
وأذهبي ياروح عني وأسبقيـــني
لترى بلبلنا ثم أخبريـــــني
كيف عدم وهو فيها مستضــل
يقرض الشعر بحب لا يمـــل
ومتى نحن على النعـــش نزل
لنري ما سقي الروض المضــل
والآن أيها الأخوة الأعزاء يا أحباب الفضول ويا عشاق الكلمة الحرف الطيب هل آن لي أن أقول لكم إلى اللقاء وأن اخلد إلى نفسي لا سكب دمعي على فقيدنا ولا تخيل النعش الذي رحل عليه والذي لابد لن من الرحيل عليه إلى عالم الخلد الفسيح أظن كذلك بعد ترديد ما قاله ذات يوم:
ليس في أيام بعدي عنك إلا حسـراتي
إنـها تـأتي يتيـمات كأيــام وفاتي
وبهـا وحشـة قبري ولها صمت رفاتي
عثمان أبو ماهر |