وداعا أيها الأب الشاعر
بلقيس إبراهيم الحضراني
رحلت فجأة ولم تترك لنا فرصة للوداع الأخير فهل تعتبر الوداع نوع من الشكليات التي لاتطبقها كعادتك عندما كنت تأتي لزيارتنا فقد كنت تأتي فجأة وتغدر أيضا فجأة بدون وداع.
كنت لا استعجب من هذا التصرف فانا أعي جيدا نفسية الشاعر المضطرمة المشاعر والأحاسيس والمليئة بالتناقضات الحادة التي تمزق وجدانه وعقله تبحث عن صيغة من التوافق والانسجام في عالم فقد توازنه واضطربت مقاييسه فهل وجدت السلام والطمأنينه إلى جوار ربك؟
لقد كنت قلقا حزينا متألما ولهذا اتخذت من النكتة والنقد والسخرية اللاذعة درعا تحتمي به في صراعك مع الحياة وكنت تبدو كالفارس إلا انك كنت تنزف من الداخل بصمت وتحد وكبرياء وقد راعك ماتشاهده وتلمسه وتسمعه حولك من المحيط إلى الخليج من تقزيم للعمالقة وتتويج للأقزام من سيادة البذاءات والوقاحات من غبار ورمال تحاول أن تحجب رؤية الجياد الأصيلة التي تبحث عن فرسان في صحراء الضمير والكرامة العربية لم تعرف الاستقرار فروحك كانت كشعلة أضيئت في ليلة عاصفة فأي قوة تستطيع السيطرة عليها
وهل تملك روح الشاعر الحق الشاعر الحق إلا أن تتوهج في كل الاتجاهات وكلما زادت الرياح والعواصف زادتها اشتعلا وتوهجا وعنفا عدم استقرار فهل وجدت الاستقرار الهدوء إلى جوار ربك؟
لقد أصبح الحزن والألم كلمتين لا يخلو منهما قاموس شعري ولا خريطة نقد ولا حديث ادني حتى تحولنا إلى أوسمة يتباهي الكل بلبسها أما الحزن والألم العظيم فهو الذي يعصر قلب صاحبه ويطهره بصمت عميق فكنب كذلك لم أعهدك تتحدث عن الحزن أو تفلسف الألم بتقعر لفظي فقد انغرستا في أعماقك لتثمرا أعذب وأجمل وارق الألحان:
إذا تبسمن اخفي من شجون الهوى شجوي واسمع دموع القلب يتناطفين
واشوف أن ابتسامـاتي يجيئـين من روحي وهن من حزنــها يستحين
هل هنالك صورة ابلغ من حياء الابتسامات التي امتزجت بالروح الحزينة وانبثقت عنها. فقد ثرت ناضلت وعندما استشهد أبوك الثائر لم تنكسر بل زدت صلابة وعنادا في سبيل الحق و"فضولا". كما سخرت وانتقدت واقعا سوط شعرك تجلد الظلم والظلام فقد خفق قلبك بالحب الدافق فكان شعرك العاطفي جدولا ينساب في قلوب الناس فتندي له وتخضر لم تكن هامشيا ضحلا بل غصت دائما في أعماق الينبوع وبالرغم من هذا لم ترتو روحك ولم تهدأ.
مدارب السيل قولي وامدارب لما
لا يقدر السيل أن يروى القلوب الظمأ
مهما سيلك سال دافق ومن
صدور ضاحات الجبال ارتمى
مكانني ظمآن
شق الظمأ قلبي وأشعل في عروقي الدما
والشوق لايطفيه شنان ما
والحب لايرويه ماء السما
واغادية فوق الربى والهضاب
سحاب نفسي ضامئة وا سحاب
وانت تروي من سيولك شعاب
ونا معاهن استقي انما
مكانني ظمأن
اقاسم الطير في الاوكار ضوء البكور
واشرب كؤوسي من الإصباح إشعاع نور
والف بالانداء روحي
وكم وكم نمت في حضن الغمام انما
مكانني ظمأن
خمائل الورد كم ياورد كم ياندا
اعطيت قلبي ولكن مارتوي لي صدى
مازلت عطشان ظامي وقد
شربت حتى الطل لكنما
مكانني ظمأن
كم هو مضني ومؤلم عطش روح الشاعر فهو عطش ابدي لا يروى يظل يهم في صحراء الحياة صاديا ليتكشف له أن الكل سراب في سراب فهل وجدت في الموت النبع الحقيقي؟
لا أحب ماأعزي به نفسي ونفس من احبوك سوى هذه الابيات لرفيق دربك ابراهيم الحضراني
قد رحلوا لم يضربوا موعدا إن عزائـي أن أراهم غدا
مابعدوا عني سوى غمضة وتلتقــي الغاية والمبتـدا
|