الفضول .. كأبرز رجال التنوير في بلادنا
منصور السروري
4 فبراير 2007
الإنسان في رحلة عبوره على الحياة يزول أثره أو يبقى أثر وجوده.. بحسب ما تركه .. والذين يتركون الأثر على أدوارٍ قاموا بها.. قليلون جداً..
المشكلة هنا أن بعض الذين قدموا الكثير.. لم يلقى من أثرهم سوى القليل الذي لا يجسد شيئاً مما قاموا به.. كـ"عبدالله عبدالوهاب نعمان" الذي أعده من "رجال التنوير" في بلادنا.
ذلك أن الفضول شذ عن القاعدة .. ولم يكن من سيرى واحدية العادة عادة النضال في مجال واحد .. توزعت حياته أكثر من ميدان .. شأنه شأن الرواد في أي زمان ومكان .. رواد التنوير .. رواد النهضة.
نقرأ أن الواحد منهم كان شاعراً، وفيلسوفاً.. وداعية.. يناضل من أجل هدف كبير هو الحرية .. إذا تحقق بعد نيلها العيش في عالم موضوعي يستطيع أن يعزز داخله قدراته وطاقاته الكامنة.. إذن .. الفضول. .. مناضل متعدد الميادين النضالية في حياته.
أولاً: ناضل في ميدان التعليم .. لينجب تلاميذاً يمتطون صهوات الليل.. ليدكون عتمة الإمامة الجاثمة فوق صدر اليمن.
ثانياً: ناضل في ميدان السياسة .. لتعلو إرادة شعب يسومه فرد عابث ظالم من بيت حميد الدين ويكفي أن أذكر قسمه مع استاذيه الشهيدين (الموشكي 48م، والزبيري 1965م)، حيث أنشد الأول: الزبيري:
بالله.. بالدين .. بالأوطان .. تحطمن معاقل الطغيان
وانشد الموشكي:
ستطير أرواحنا إلى أوج العلا أولا فأرواحنا إلى رضوان
ثم أنشد الفضول :
ستعانق الفوز المبين نفوسنا حتماً كما يتعانق الأخوان
السمو الروحي نجده عند الموشكي، والإصرار على تحطيم معاقل الطغيان عند الزبيري.. لكننا نجد عند الفضول "النصر ضرورة حتمية" ليس لأن الواقع هو الذي فرضها.. إنما الإرادة المؤمنة بالانتصار فريضة حتمية وضرورة بشرية.. كحتمية اعتناق الأخوين الغائبين عن بعضهما منذ زمن طويل.. والأخوان في قسم الفضول أحدهما (النفس) والآخر (الفوز) هذا الترميز لا يستطيع أن يوظفه إلا أديب يمتلك الأدوات اللغوية التي يوظفها في بنائه الشعري.. فإذا كانت النفس.. لم يحسم الفلاسفة وعلماء الكلام ماهيتها.. بيد أن الفضول هنا يعطيها صفة الحواس كلها.. فالعناق سلوك مادي .. والنفس شفافة لا ترى ولكنها عند الفضول ستعانق (الفوز المبين)...وهذا الاستيقان من السمات التي لا تتوافر غير عند طراز خاص من البشر.. ممن تتوافر لديهم الشروط والأسباب والصفات الذاتية لتولى القيادة في الفعل السياسي.. وهذا ليس غريباً على شاعرنا الذي انصهرت حياته في عائلة ارتضت النضال وخبرة السياسة وساقت والده إلى سجون الإمام قرابة العشرين عاماً..وفي الأخير تجز رقبته تحت سيف الظلم.. رحم الله الشيخ عبدالوهاب نعمان الذبحاني مصنع كل رجال الحرية الوطنية في بلادنا.
إن هذا اليقين بالنصر يبث نبض الحياة في النفوس اليائسة وهكذا هم الشعراء الحقيقيون لا يكتبون الكلمات بالدموع الباكية ولا بمداد الإحباط وإنما يكتبونها بأنفاس الحياة لأن في النضال سر الحصول على الحياة وفي الإحباط ضريبة الفشل كما في العذاب ضريبة العمر وهكذا استمر الفضول مناضلاً قبل وبعد الثورة وعين وزيراً للإعلام في عهد الإرياني وناضل في ميدان الصحافة لتنتصر الكلمة التي تفعل في الواقع فعلاً تعجز عن فعله مئات الخطب العصماء.. فالسخرية أحد مثيرات الخنوع والاستكانة عند الناس لأنها تدخل ذات المهزوم من خلال ذات الساخر وكانت صحيفة الفضول في عدن تلعب هذا الدور في استفزاز النفوس المستكينة إلى الذل أو الاقتناع بالعجز بغية استنهاضها في أن تقوم بواجبها نحو الإمامة والاستعمار.
وبذلك يكون الفضول رائد الكتابة الصحافية الساخرة في اليمن ومن يحاول الإطلاع على بعض كتابته أو قصائده الساخرة يمكنه أن يرجع إلى دار الكتب في صنعاء أو كتاب الظمأ العاطفي ـ الفصل الثامن (الفضول الساخر) لمحيي الدين سعيد.
ومن ذلك أن إذاعة المملكة المتوكلية اليمنية أذاعت خبراً مفاده أنها ستخوض حرباً مصيرية فكتب الفضول:
باللحى باللحى نبيد قواهم وبالمساويك ننزل الطائرات
فمساويككم أشد وأقوى ولحاكم من أبهر المعجزات
فإذا كان جيش اليمن لا يملك أبسط الأسلحة فكيف سيدخل الحرب أمام دولة تمتلك طائرات ومدججة بأحدث الأسلحة الحديثة.. وإزاء هذه المهزلة غير الواعية التي يستوطنها الجهل لم يجد الفضول غير أن يرد بسخرية تحرق وتقض مضاجع بيت حميد الدين وتضحك قلوب الرعية على الحاكم.
ربما كان من أصح المقاييس لدراسة نتاج شعر الفضول شيئين اثنين أولهما مرافقة الفضول وثانيهما المرور المتأني على دواوينه لنعرف الإجابة على بعض الأسئلة الهامة "متى أورق الشاعر ومتى أزهر؟ متى تبرعم وأين أثمر؟".
لكن في حالة عبدالله عبدالوهاب نعمان تغدو الدراسة لنتاجه الإبداعي أكثر تعقيداً للأسباب الآتية:-
1- لم يرافق حياته صاحب أي دراسة من بداية الأربعينيات حتى رحيله.
2- لم يجمع الشاعر أثناء حياته أعماله الشعرية في دواوين.
3- لم يتلقف أي من المهتمين (أقارب ـ أصدقاء) الشاعر أو المؤسسات (رسمية ـ أهلية) لم تتلقف أعماله وجمعها وتبويبها حسب المراحل الزمنية تصاعدياً حتى وفاته في عام 82م لاعتبارات أهمها:-
أن الفضول رافق ميلاد حركة الأحرار الوطنيين تنظيمياً ويعتبر شاهد عصر على الأوضاع قبل وبعد الثورتين في الجنوب والشمال وإشعاره بمثابة الشهادة التاريخية حيث الأدب مصدر من مصادر كتابة وقراءة التاريخ بل يذهب علماء الانثربولوجية إلى تتبع حياة أي مجتمع من خلال قصائد الشعراء الذين عايشوا الواقع وبالتالي يمكن أن نعرف من شعرهم حقيقة الواقع أكثر من التاريخ المدون تحت عناية البلاط الملكية أو الأميري أو السلاطيني.
فالشعر مرآة العصر وهو الوحيد القادر على نقل الصورة إلى الأجيال في حين غفلة من الحاكم.. والفضول عاصر كل اللحظات والنقلات المصيرية بمخاضها وانتصاراتها ولأنه شاعر يستحيل أن يترك كل التحولات التي عاش أحداثها معايشة مادية ووجدانية ولا يكتب عنها شيئاً وهو الذي ناضل واهباً روحه لأجلها فهو يحزن لعثرات الحركات الوطنية ويفرح لانتصاراتها.. ربما أن العمر لم يعطه الفرصة لجمع نتاجه الشعري فهل يعني هذا أن تصمت المؤسسات المعنية من مناشدة أقربائه إن كانت لديهم أعمالاً للفضول وإخراجها أو تسييرها للباحثين لأن تجربته النضالية تحمل في مضمونها الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها.
اعتبار آخر أن ما وصل إلينا من شعر الفضول لا يعبر بالضرورة عن كل أشعاره أكان من خلال ديوان الفيروزة أو الجهد العظيم الذي بذله محيي الدين علي سعيد في إخراج كتاب الظمأ العاطفي وهو جهد يستحق الكاتب عليه التقدير وأخشى أن يكون هذا المبحث هو كل ما تركه دون أن تظهر دراسات أخرى تتناول جميع إبداعاته شريطة أن تصنف وفق تنوعاتها الأدبية (فصيح ـ وطني ـ غنائي عاطفي) ترتيبها تصاعدياً لأهميتها في قراءة تجربة الفضول الشعرية.
لقد مرت أربعة وعشرون عاماً على رحيل الفضول ونسي الكثيرون خاصة المعنيين بالفكر والثقافة والأدب الفضول الشاعر الفضول الكاتب والصحافي الساخر وربما كما قال المقالح يتذكرون منه سوى هذا الهديل الجميل الذي يتردد عذباً من أجمل حنجرة يمنية، يقصد أيوب وأن أضيف عبدالباسط عبسي ويعزى لهذين الأيقونتين أيوب ـ عبدالباسط الفضل الكبير في حفظ إبداعات الشاعر الكبير.
بداية التقى به أيوب في مدينة تعز عام 67م وأعطاه الفضول قصائد "وادي الضباب ـ مدارب السيل ـ هاتلي قلبك ـ طاب البلس) كما قال أيوب: "أخذ يقرأ لي قصائده وأنا مأخوذ بروعة الكلمات وسحر المعاني أردد بعد كل مقطع كلمة ياسلام" وقال أيوب: "أنه اسمعه لحناً لأغنية تقول (الأخضري خضر من الرشاشي خضر من الله لا مطر ولا شي) أعجبه اللحن لكنه اعترض على الكلمات وقال (الخبر هذا مش مليح.. هذا مايستويش) وفي اليوم الثاني جاءني بقصيدة أخرى تقول (بكر غبش بالطل والرشاشي بكر بكور قبل الطيور ماشي (الظمأ العاطفي ص500)" فكانت أول أغنية ركبها الفضول على لحن جاهز لأيوب لتتشكل ثنائية متميزة قل أن يأتي الزمان بها على المدى ربما البعيد.
"وذات يوم اسمعه أيوب أغنية صنعانية تقول:
(ياخو القمر شلوك قبال عيني ما زاد وقف دمعي ولا حنيني)
فرد عليه كعادته:
(ارجم ارجم من هذين الأغاني اللي ماينفعنش ايش من كلام هذا .. شلوك قبال عيني وانا جالس ابكي ايش من خبر هذا)
واعطاني كلمات بنفس الوزن تقول (طال الفراق وأنا إليك مشتاق صابر وصبري ياحبيب قد ضاق اظمأ وتسقيني الحياة اشواق) (الظمأ العاطفي ص502)".
استدل من هذين الموقفين أن الفضول وجد ضالته في أيوب ثم في عبدالباسط اللذين خصهما بأفضل القصائد لا ليؤسس فحسب لمدرسة جديدة في الشعر واللون الغنائي وإنما ليؤكد على تميز المدرسة التعزية الجديدة ضمن ألوان الشعر الغنائي اليمني الصنعاني ـ الحضرمي ـ التهامي.
|