الفضـول
د. أبوبكر السقاف
عندما سمعت نبأ وفاة المرحوم عبد الله عبد الوهاب نعمان تذكرت "الفضول" الاسم الذي اختاره لصحيفته، فأصبح علما عليه، لأنه أحسن الاختيار. فالناس عادة يتهمون كل من يتصدي لنقد أي أمر بالفضول، وأما إذا كان النقد موجها إلى الإمامة والسياسة، فأن ذلك أقصي درجات الفضول. ولا شك أن الإمامة كانت تنظر إلى كل من وما لاينضوي تحت مزاعمها بأنه دخيل وطفيلي. ولكن "الفضول" كانت غاية الايجابية، لأنها قلبت المفهوم وألبسته وجه قضية، فأصبحت الإمامة الكيان الطفيلي في تاريخ اليمن الحديث.
تذكرت عدن الخمسينات، عندما كان اليمنيون يجمعون شتات أيامهم وينشطون في الأندية والمدارس المسائية، وفي مقاومة الاستعمار البريطاني الذي كان يصر على تقسيمهم إلى جنوبيين وشماليين وعدنيين وجنوبيين وقعيطيين وكثيريين. تذكرت جهود من بقي من حركة المعارضة اليمنية "الأحرار الدستوريين". ولأن الفضول وهب نفسه لقضية كبرى تضفي عليه ألقَها، حتى عندما تكون في ذمة التاريخ، فما بالك إذا كان الكثير من شعاراتها لا يزال من قضايا الساعة: الديمقراطية والحكم التمثيلي. ومهما كان نقدنا لقصور تصور الأحرار لهذه المشاكل الكبيرة، إلا أنهم كانوا أول من بذرها في تربة شمال اليمن. ولعل الخلاف معهم أدعى لإنصافهم.
لقد واصل دفاعه عن هذه القضايا بسلاح النكتة، وما أكثر المشاكل التي نفذ إلى جوهرها بهذا السلاح. أتذكر خبراً مثيراً نشره في "الفضول" تحت عنوان مثير "انقلاب عسكري في اليمن"، وتتضح الصورة عندما تقرأ أن العسكري انقلب من على حماره، فيسخر بذلك من الإمام وعسكره. كان رحمة الله مجدداً ومؤسساً في أكثر من مجال، وقد جاء تجديده على موعد مع الحياة السياسية، فمهدها بالأمل الضاحك سلاحاً فاعلاً في معركة التحرر والتطور.
وعندما اصدر "الفضول" كانت بحق الصحيفة الأولى من نوعها في اليمن شمالا وجنوبا، ولم تجد من يرث تقاليدها إلى يومنا هذا في صحافتنا. لقد جعلت "الفضول" من الإمامة أضحوكة. والضحك قادر على الهدم لأنه يجرد المنقود من كل أقنعته وجلاله المدعي. بل أن علاقة "الفضول" بالأوضاع في شمال الوطن بعد هزيمة حركة 1948 لم تعد إلا كاريكاتيرا يستحق السخرية، لان شهداء الحركة وجهوا أليها ضربة قاتلة رغم فشلهم في البقاء في الحكم. وقد اكتشف هذا الفضول بوعيه وبحدسه وساعده على هذا طبعه الذكي المرح أن الإمامة جثة حية تأخر دفنها فلنضحك على هذا الركام الذي يسد الطريق.
وصحافة التجديد هذه كانت جزءاً من الجديد الذي فاضت به عدن في الخمسينات على كل اليمن.. النقابات والحركات السياسية الجديدة والتيارات الفكرية المعاصرة والأغنية المطورة .. مئات الآلاف من اليمنيين يبنون الحياة ويقاومون على جبهتين الإمامة والاستعمار البريطاني.
والفضول في غمرة تلك الأيام صنع سلاحه الخص ضد الإمامة .. أحيا الابتسامة على وجوه اليمانيين، وأسهم في زرع الأمل في قلوبهم.
عرفت الصحافة في العالم وتعرف مجلات متخصصة في فن السخرية، وقد شهدت مصر مثل هذه الصحف المجلات ولاتزال مجلة "عفوا" تصدر في ألمانيا الغربية و"التمساح" في الاتحاد السوفيتي، وهما من أشهر المجلات. لقد نجح الأخ عبد الله عبدالوهاب نعمان كل النجاح عندما سماه المواطنون "الفضول" فوحدوه بصحيفته ووحدوا صحيفته به. وهل يتجاوز حلم المبدع هذا الأفق أن يتوحد بعمله وإذا كان عمله لم يتطور لا على يده ولا على يد غيره، فذلك أيضاً جزء من الانقطاع والتقطيع الذي نشهده في حياتنا السياسية والفكرية والتي تعاني من جدب في التجاوز الحقيقي الذي يعني الانقطاع والاستمرار، أي الإبداع، وهو أمر لاعلاقه له لابالاجترار ولابالفكران والعدمية وأصعب منهما.
وتجربة "الفضول" في الشعر، وشعر الأغنية بوجه خاص، مثال آخر على أنه مجدد ناجح. وهنا أيضا كان مؤسساً. فقد أدخل الأغنية الجديدة التي تمنح من أغاني العمل في الحجرية، وبالذات أغاني النساء، ومزج ذلك بحب عميق لجمال الأرض التي يحبها لسمائها وجبالها وجداولها، فنسج مع الأخ الفنان أيوب ألوان أغنية ممكن أن قول أنها استمرار لأغنية المدينة في اليمن، فأضافا بتلك الأغنية التعزية أن صح التعبير إلى اللحجية والصنعانية والحضرمية واليافعية .. إلخ.
فخياله بلا شك خيال مثقف، وإن كان يغترف بدراية ومحبة من الفيض الشعبي والكلام المديني الدارج. كان يجيد لا فن الضحك فحسب، بل وضحك الفن. والثاني أرفع من الأول، لأنه لايقتصر على إجادة استعمال الأدوات، بل يذهب مباشرة إلى الفن، فيصنع من الضحك قضية.
سوف تتذكر الأجيال الجديدة الفضول لو أحسنا تقديم تاريخ صحافتنا الحديثة. أما الذين سعدوا بمعرفته فانه سوف يرسم الابتسامة على وجوههم وهو بعيد عنهم في عالمه الأخر، مؤكدا بذلك أن رسالة الفنان الجدير بالإجلال إنما هي نشر الفرح ومقاومة الكراهية الجمود والظلم في كل لون وشكل، وحتى الذين لم يعرفه سمعوا عن لقطاته الذكية التي تلخص الكثير في القيل كما كان أسلافه يفعلون في الأدب العربي القديم.
موت الفضول المفاجئ إن كان الموت مفاجأة يثير مسالة قديمة: هل أحسن الوطن الاستفادة من أمثاله؟ وهل نجحنا في إقامة الجسور بين أجيالنا لنحافظ على الجدير بالبقاء من أعمال أجيالنا؟ رحل عنا الشاعر بعد أن جعل حياتنا ارق وأضحكنا على أعدائنا وعلى أنفسنا كثيرا. فهل نحن قادرون على جعل ذكراه في مستوى فنه؟ إن العبء الأساسي يقع على اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين وعلى الفنانين ومحبي الفن في بلادنا.
الدكتور أبو بكر السقاف
19/7/1982
|